شجرة الموقع

الثلاثاء، مايو 10، 2022

[ العلم والمنهج ] | كيف تُبنى شجرة العلوم

 ما هو العلم ...

ذلك الجواب العظيم، يتوقف على مقصدك ... أتريد أن تعلم ما هو العلم حقاً، كحالة وجدانية لها اسم يرمز لها، أم كظاهرة اجتماعية لها منظومة من الأسماء التي ترمز للعلاقات


نوعان من التفاعل بين الذات والوجود :

ليست الطريقة الصحيحة بالنسبة لي أن أثبت لك كلامي بدراسة علمية موثقة، أو بتجربة ما، أو بإثبات من أي نوع أن العلم الذي أحدثك عنه الآن هو علمٌ كالذي يدرسونه ويخترعون عبره الاختراعات والأدوية والتقنيات النفسية ... لأن دعوتي ليست مجرد تعديل على نموذج المعرفة المسمى بالعلوم، القائم اليوم أو محاولة لخلق نموذج جديد أكثر كفاءة للتعامل مع هذا الواقع، لأنني وفي قرارة نفسي، لا أرى أملاً من البحث عن طريقة للتكيف فيها مع هذا الواقع، ولا أرى جدوى أصلاً من شيء في هذا الواقع.

حاول التركيز وأوقد شرارة انتباهك، وانظر حولك لترى هل هنالك أي شيء يستحق أن تبقى لأجله على هذه الأرض، وضمن هذا العالَم المادي بشكله الحالي ؟ لماذا أنت مستمر بالتفاعل الزمني مع واقع لا تريده ولا ترغب بالبقاء فيه إلى الأبد ؟

حاول النظر إلى المال والزينة والمشتهيات التي تعوم في فوضى واقعك الكوني، وأخبرني ... هل هي جميلة كفاية لتقضي كل حياتك معها ؟ وأن لا تبحث عن طريقة للخروج من واقعك الذي يحدد نطاق حياتك الزمني ؟ البعض يقول أن العمر قصير، وهذا ما يجعلك الواقع تفكر به باستمرار ، عمرك القصير وقدراتك المحدودة تمنعانك من الخروج من سجنك الحالي ... البعض يقول أن هنالك إمكانية أن تستخدم هذا الواقع كأرض تبني عليها آلتك الزمنية، فتصبح نوعاً من الإنسان الآلة، الذي يتمكن من البقاء في الكون الفيزيائي لأجل غير مسمى، باستخدام قوانين الفيزياء التي يعتقدون بها... وحتى ولو بقيت في هذا الكون لأجل غير مسمى، وعُمّرت آلاف السنين، هل هو بمزحزحك من عذاب الزمن شيئاً ... ستمل في النهاية من تكرار الأحداث التي لا تنتهي بواقع زمني محدود النطاق، فمهما تعددت الكواكب والنجوم والكائنات الحية والنفوس، فكلها تنتمي لنفس التصنيف ، هذا الزمن الذي أمامك، الغائب عن وجدانك، الحاضر إلى حواسك، الحاضر إلى إدراكك كصور حسية متحركة وتفاعلية، لا تملك دليلاً عليها ولا على وجودها من دون الإحساس الوجداني الصادق ...

إنك لا تستطيع إثبات شيء ولو استغرقت ما استغرقت، من كتب الفلاسفة والباحثين الأكاديميين، حتى أبسط الأشياء، شكل يدك التي تكتب بها، وشكل غرفتك التي تقطنها، وشكل الزمن الذي تمر به، تستطيع إثباته فقط إذا أثبتت الواقع الذي ينتمي له، واقعك المحسوس، الذي تنتمي له الجامعات والمعاهد أيضاً، وفي غياب هذا الواقع، وأن يكون محاكاة حاسوبية أو سحرية مثلاً، جعلتك تنسى الواقع الحقيقي وأدخلتك في هذا العالم بمفاهيمه ومصطلحاته وأشكاله وماهياته، فإن كل ما يبنى عليه بعد ذلك، سينهار ، ولن يحدث له يقين أبداً.

فإذا أردت الحقيقة المطلقة فعلاً، وليس مجرد اللهو في الزمن... فلا تحكُم أي حكم على الأشياء والكائنات التي تصادفها بزمنك، حتى ولو صادقتها، فهي في النهاية غائبة عنك، ربما يكون هذا صادماً، وربما مفزعاً ومزعجاً، ولكنها الحقيقة التي لا مجال للشك فيها، أنك لا تستطيع إثبات وجود أستاذك في الجامعة أكثر مما تستطيع أليس إثبات وجود الأرنب الذي تراه في الحلم اثناء محاولتها وهي نائمة.

نعم تستطيع أن تثبت كروية الأرض أو تسطحها، أو نظرية التطور أو التعديل الجيني، أو كل ما قيل في فيزياء الكم عن طريق التجريب المستمر، ولكن هل تسمي هذا برهاناً ... أليس أيضاً رأت الأرنب بعينيها كما رأيت صور الأرض بعينيك، وسمعت صوته كسماعك لصوت المحاضرين في الجامعة، بل وكان من الممكن أن تستمر في ذلك ... كان من الممكن أن تستمر في التجريب والاشتقاق الرياضي لأجل غير مسمى في ذلك العالم، وتستنتج قوانين وعلوماً لانهائية، وفي لحظة واحدة .... تستيقظ لترى شمس الحقيقة... ويتبدد كل ذلك الوهم العظيم.

كل إثبات يعتمد على فرضية مسبقة، يزول بزوال تلك الفرضية من أشعة الإدراك والوعي، والواقع الفيزيائي أمامك هو أيضاً ، فرضية مسبقة ... تماماً كما كان واقع إليس فرضية مسبقة.

العلم قبل كل شيء هو تفاعُل بين الذات المُدركة والإدراك من جهة وبين موضوع الإدراك من الجهة الثانية ، هذا الأصل في كل ما تعلمه وبغض النظر عن ما تعلمه ، فالعلم هو حالة شعورية وجدانية تنتقل فيها الموضوعات إلى إدراك الذات فتصبح معلومات ، ستقول لي من الذي قرر هذا التعريف ومن أي جامعة ، أرد عليك : ومن الذي خول الجامعة أصلاً لكي تقرر ما هو العلم ؟ ما العلاقة بينك وبين الجامعة ؟ ما العلاقة بينك وبين العالم الخارجي ؟ هل تدرك العالم بعينك ووعيك أم بعين ووعي الجامعات ومراكز البحث العلمي ؟ …

إنك وقبل كل شيء أيها الإنسان ، وجدانٌ حي يتفاعل مع الوجود ، ربما تأسرك مواقع معينة من الزمن الذي تشهده ، كالجامعة أو الجامع ، ولن يؤثر ذلك على الحقيقة أبداً ، حقيقة أن العلم يسبق المعلومات و ( بغض النظر عن مصدرها واعتمادها ). أتريد تعريفاً اسمياً للعلم ؟ أنه كذا وكذا بشرط كذا وكذا ؟ أم تريد اختباراً مباشراً لـحالة العلم ، ومن خلال تلك الحالة وذاك الاختبار ترى ما الصحيحُ بين التعريفات …

العِلم الذي ينفع ، لا يجعلك تغرق طوال حياتك بدراسة كتب ونظريات … ليس لها وجود حقيقي تختبره علمياً ، بوجدانك وبشعورك المُباشر.

العلم والمنهج : كيف تبنى شجرة العلوم​

كما تعلم ، يقوم العلم بالأصل على ثلاثة مبادئ رئيسية هي الوجود المُدرَك الذي تعلمه ، والذات التي تدرك ذلك الوجود ( وهي ذاتك ) والتفاعل الذي ينشأ بينهما. من خلال هذا المفهوم الصادق عن العلم ، يمكنك تصنيف شجرة العلوم ، لأن الذات تغدو هي العالِم ، والوجود هو موضوع العلم وتشعباته ومسلماته البحثية وسائر الحقائق والافتراضات الأولية التي يقوم عليها ، وسائر الحقائق والافتراضات الثانوية التي تدركها عبر الأوليات العلمية.

ولنأخذ مثالاً تطبيقياً : البايولوجيا :

يقوم هذا العلم على مجموعة من الحقائق الأولية في الواقع البيئي ولها تسميات محددة ( الجسم الطبيعي - الكائن الحي - الممالك الخمسة - البيئة والمحيط …. ) ويدرس موضوعاً محدداً بدقة وهو "الحالة التفاعلية بين الجسم الحامل للحياة وبين المحيط الفيزيائي الذي يحتويه".

ويستخدم بذلك ثلاثة مناهج رئيسية : 

التجريب المعملي لقياس التفاعلات الجزئية الصغيرة بين أصغر الوحدات الجسدية ( الخلية - الجين … ) وبين العوامل الفيزيائية والكيميائية التي تؤثر بها.

والملاحظة المباشرة : كالتشريح ، ودراسة العوامل البيئية والتوزيع الحيوي للأنواع ، والأحفوريات وسائر تلك الأمور.

والتجريب المختبري الذي يقيس الفيزيولوجيا الكُبرى للكائن الحي ، تفاعل أعضاءه مع العوامل المختلفة ، ويربطها ببنيته التشريحية.

لكن الأسئلة التي لا تتخصص بها البايولوجيا من مثل : هو مِن أين جاءَ مثل هذا التعريف ، كيف عرف الإنسان ما هو الجسم الطبيعي ، ما هو المحيط الحيوي ، ما هي البيولوجيا … كيف عرف الإنسان ما هي الجينات والبروتينات ، كيف عرف كيفية الوصول إليها ؟ كيف يعلم الإنسان طريقة تصنيف المعلومات الحسية التي تأتيه عبر العالم الخارجي عن طريق الحواس ، يحولها إلى نموذج تصوري له أقسام وأسماء وعلاقات ، وله مناهج خاصة في البحث ، وفي الإثبات ؟ ... هي أسئلة تتعلق بمنهج العلم وليس بفحواه ، وهي التي ترسم قوام العلم وتعطيه قيمه ومقاديره الصحيحة.

ذلك السؤال ، لا يدرسه أي طالب من طلبة العلوم الطبيعية التجريبية اليوم ، بل لا يسأله ولا يلتفت له لأنه يتم إشغاله باستمرار بقضايا العلم الجزئية قليلة النفع ، مثل ماذا يحدث للجزيء البيولوجي x عند تعريضه لدرجة الحرارة والضغط الفلانية ، وكيف يرتبط الجزيئ الآخر بعملية هضم تلك السلسلة الأمينية بالذات وما ينتج عنها ما فضلات وأين تذهب تلك الفضلات النانوية. هذا واقع يعانيه العلم اليوم ، النظرة التجريبية تحولت بالكامل إلى تعميم على الجزئيات ، وهذه الجزئيات تتكاثر باستمرار وتحجب عينك عن أمور أخرى أهم وأعم وأشمل.

لا يختلف الأمر بالفيزياء مثلاً ، لأنها هي الأخرى صارت قائمة على التجزيء المتطرف والاختزال العصوب للواقع الفيزيائي ، وما تراه من جماليات في النظريات الفيزيائية العلمية ، لا يعود إلى هذا الزمن الذي أنت فيه ، بل إلى زمن آخر ولّى وانتهى ، زمنٌ ليس فيه تعصب … زمنٌ استلم فيه فاراداي بتجاربه التخيلية زمام الأمور في الجمعية الملكية ، وهو لم يتجاوز الصف الأول الابتدائي من مرحلة التعليم ، اعتماداً على إنجازاته المذهلة في تأسيس علم الحقول وعلم الأمواج وعلم الكهرومغناطيسية ، وفي كشوفاته الكيميائية والفيزيائية ، التي اعتمدت على التصور والتجارب التخيلية ، المُقاسة كيفياً ، ولم تتقيد بالتجريب الكمي الجزئي ، الذي منع معاصريه من فهم قوانين الكرهرومغناطيسية لأنهم لم يقدروا على إعمال التصور والخيال واكتفوا بالتجريب المُباشر، فلقد كان يبحث عن المفاهيم الطبيعية الكلية.

ذلك الزمن، الذي بُنيت فيه فيزياء النسبية لآينشتاين على الرؤية التأملية ، قبل الاختبار التجريبي المحلي ، وحققت ما لم تحققه أي نظرية أخرى ، وهو نفس الزمن الذي قدم فيه ماكس بلانك للعالم نموذج ميكانيك الكم الصحيح الخالي من العبث ، بأبهى صوره ، وهو العالم في الرياضيات ، الذي لم يسبق له أن قام بأي تجربة أو تعامل مع أي نتائج تجريبية على أنها مصدر الحقيقة المطلقة.

لم يبقى اليوم إلا فتاتٌ من كل ذلك ، أكثر ما يعلمه للإنسان هو التشذق ببعض الكلمات والمصطلحات باللغة الانجليزية ، لا أخشى قولها ولن أجامل أحداً على حساب الحق ، وهذا في مصلحتك بالضرورة ، وليس في مصلحتي بالضرورة.

ذلك السؤال حول تعيين المنهج العلمي ، والموضوع العلمي ، وقبل كل شيء العلم … ليس من تخصص العلوم الطبيعية.

العلوم الطبيعية سائرها مرحلة متقدمة كثيراً على تلك المقدمات والأسئلة الحرجة ، ودون تأسيس يقيني لن تصل لوصف حقيقي للوجود المُدرَك ، سيغدو العلم الطبيعي مجرد محاولة ل"تسهيل الحياة" تحت شعار ( الواقعية ) حقاً ؟ أي واقعية هذه التي تشغل الإنسان بما هو كائن حي مُدرِك، تشغله عن إدراكه الكلي ، وتحيله لموضوع شديد الصغر والتجزيء ، بحجة أن عليه عيش الواقع ، ذلك الواقع الأعمى ، الذي سلب من الإنسان إنسانيته ، سلب منه جمال الحياة وبهجتها ، سلب العفوية وضحكة البراءة ، وأيقظ آلة الحرب في نفسه ، وآلة الحرب في جسده ، وفي إعلامه وواقعه وعلاقاته … أي واقعية هذه التي تسعى لخدمة نطاق محدود للإنسان ، لتبقي عليه حبيساً فيه ، لا يستطيع حتى النظر من النافذة نحو صفاء السماء ، إلا والتفكير يستهلك إدراكه ، بذلك الواقع الجحيمي الذي يحاولون أن يرونه إياه على أنه جنة الخُلد والنعيم الأبدي … مباركٌ عليكم واقعيتكم ، ومباركٌ على المؤمنين إيمانهم الوجداني الحي ، الكاشف للحقيقة المُطلقة الخالية من ضباب الترجيح والظنون التي تسمى بالعلوم.

التصنيف الإدراكي للعلم في شجرته الوجودية يكون عبر ثلاثة معايير

من حيثُ موضوع العلم

1. إما أن يكون كشفاً للحقيقة المُطلقة ، ويسمى حينها العرفان ، الذي يدرس أصل العلاقة بين الذات وبين الوجود ، وبناءً عليه تتفرع العلوم بأسرها ، والحديث في الغرب يسمى بالفينومينولوجيا الترنسيندينتالية. بالتحديد التي أسسها هوسرل ، وهدفت لإعادة تأسيس العلم على أساسٍ متين ، ونجح في ذلك بخصوص بعض العلوم وتوفي قبل أن يكمل مسيرته.

2. أو يكون كشفاً للواقعة التي تربط بين الحقائق الشهودية المُدركة ، وبين ما دونها من عوالم ، فيبحث في الواقع المعقول والزمن العقلي التجريدي ، الذي يحسه الإنسان بحواس العقل لا بحواس الجسد ، وهذا الكشفُ يسمى بالفلسفة ، علم الفلسفة هو دراسة الواقع المُجرد عن قيود الحواس ، فإذا كانت الفلسفة قائمة على الأسس الإدراكية فتسمى بالعلم الفلسفي ، وإلا فإنها سفسطة أو مزيج كلاهما. والفلسفة بوصفها صلة الوصل بين الوجود وبين الذات ، هي الوحيدة التي يحق لها أن تعرّف العلوم الفرعية ومواضيعها ومناهج البحثِ فيها ، ولا يكون لهذه العلوم أن تتحدد هكذا عبثاً من تلقاء نفسها أو لمجموعة من الناس اتفقوا على ذلك ، لأنها في تلك الحالة لا تكون علوماً وإنما تجمعات منظمة لمعارف عشوائية اسمية.

3. أو يكون العلم كشفاً للواقعة التي تتصلُ بها الذات إدراكياً بوساطة جسدها أو عقلها، وهذا النوع الأخير يتفرع عنه ثلاثة علوم هي الطبيعيات والرياضيات والتجريديات ، ويخطئ الكثيرون بالدمج بين مفهوم الفلسفة بما هي علمُ الوجود المُدرَك ، وبين مفهوم الفلسفة بما هي علم الوجود المُجرّد ، إن مبحث الأحكام العامة للوجود ، والمنطق الصوري والرياضي ، وسائر الأشياء الأخرى التي تسمى بالفلسفة والتي يدرسها طلاب كليات الفلسفة وتاريخها ، ليست هي الفلسفة بالمعنى الحقيقي ، بل هي مرحلة لاحقة عليها تتعاملُ مع الطبيعة التجريدية والفيزياء التجريدية. وليس مع التجريد بحد ذاته.

بينما تكون العلوم الطبيعية هي الدرجة النهائية لكل ذلك ، معتمدة في قوامها بالكامل على سائر تلك العلوم ، وإلا فتفقد هويتها ، وتفقد معناها ، وتصبح مجرد لغو اسمي مكتوب بالكتب يرتبط بتصورات اسمية عن الواقع. وتكون إنجازاتها التطبيقية محض استغلال لتوافقات الواقع الحقيقي مع بعض ركائز البنيان النظري لتلك الأسماء، تلك الركائز التي ورثها العلم الحديث عن العلوم القديمة واستخدمها بالشكل الصحيح.

من حيث معيار واقعية العلم :

1. تكون العلوم إما اعتبارية\وضعية\اسمية ( ليس لها وجود واقعي كعلمك بكذبة ما ، أو علمك بخرافة أو بشيء من هذا القبيل ، وكعلم السياسة والاقتصاد والاجتماع بمجمله ، فالسياسة والقانون ليس لها وجود واضح واقعياً ، ولكنها موجودة بشكل لابد منه لتنظيم شؤون الناس وأحوالهم - وليست غاية بذاتها -).

2. أو تكون حقيقية بُرهانية ، وهي ما قام عليها البرهان ، التجريب يصلح كشرط من شروط البرهان ولكنه ليس الشرط الوحيد الكافي لتحقق البرهان الصادق الصحيح ، لابد أن يكون البرهان قاطعاً ولا يوجد تجربة قاطعة لوحدها أو مع التكرار، على امتداد التاريخ ، إلا إذا تم الأخذُ ببُعدها التجريدي وتجاوزت واقعتها المحلية التي تحصر تعميمها بنطاق احتمالي وتاريخي محدد. وهنا يبدأ التزييف العلمي ، لأن العلوم الطبيعية اليوم تقوم على الاعتبار أكثر من الفلسفة الدقيقة ، فلا توفر نتائج برهانية ، بل استخلاصات وترجيحات ((( واقعية ))).

3. أو يكون العلم حقيقة فينومينولوجية كشفية ، تراها بعين إدراكك الشعاعية ، تختبرها كما تختبر طعم الهواء ورائحة القهوة ، وليست كلمات رنانة ومعادلات منظومة في صفحات ورقية لا تستطيع النفاذ إلى جوهرها.

عبر منهج دراسة العلم :

لا يمكنك أن تدرس العلوم الطبيعية المنفصلة عن إدراكك الحي المباشر ، بنفس الطريقة التي تدرس من خلالها الحقائق المُطلقة ، أو بنفس طريقة دراستك للتاريخ والآثار ، لا يمكنك أن تخضع كل ما تعلمه أو ما يمكن أن تعلمه لمبدأ التجريب والموضوعية وما يسمى بالمنهج العلمي التجريبي ( وهو جزءٌ من المنهج التجريبي العلمي الأصيل ، لأنه استبعد كثيراً من الأنماط التجريبية التي لا تتعلق بالواقع المحلي ). ما يحاولون أن يجبروك على الإقتناع به بكل هزل وسخرية ، أن الواقع المادي الذي أمامك ، المحدود ، بل تأويلهم المظنون لهذا الواقع المادي المحدود ، وأسماؤهم التي سموها له ، هي كل شيء يمكن ويحتمل وجوده ، هذا أمر سخيف … أقلُّ حتى من نقاشه … إنه مجرد دعوى متعصبة لمجموعة من الأشخاص الذين لا يرغبون بالحياة ولا الحرية لكم ولا لهم ، هؤلاء الأشخاص ( النظام العالمي الجديد ) سيجعلونكم تندمون على خطاكم السريعة هذه ، نحو الهاوية الكُبرى ، التي تجركم إليها شيئاً فشيئاً … بينما النور الساطع أمامكم ، ها هي علوم الطب الكوني أخذت بالانتشار وتحقق نتائج لا يمكن لأي مجمع بحوث طبية أن يحققها ، وعلى يد من ؟ على يد أفراد ونشطاء لم يجدوا من يمولهم أو يتبنى رؤيتهم ، ( وكثيرٌ منهم أطباء سابقون ) … هل سمعت بالاختراعات المقموعة ، والطاقة المجانية ، والكهرباء اللاسلكية ، وطاقة الأوروغون ؟ هل سمعت بأبحاث وليام رايخ مثلاً ؟ هل سمعتَ بعلوم الميسميريزم والAnimal Magnetism وتطبيقاتها التي لا تنتهي في المجالات الطبية والتكنولوجية ؟ هل سمعتَ بعلم الآثار المحضور ؟ بالطبع لم تسمع بكل ذلك ,, المستقبل الواعد للبشرية جمعاء ، هو في تكوين العلم من جديد ، وفي تحقيق الرؤيا الشمولية للواقع الكلاني ، وجعل غاية العلم النهائية بحثاً عن قيمة الحياة وعبور الزمن ، تسموا فوق كل الغايات ، لترقى بالبشر من هذا الجحيم ... تاج العلم هو القيم والأخلاق ، فالأخلاق هي أصل الوجود ولأجلها خُلق الوجود ، وليس لتعيش هذا الواقع الضئيل وتبحث فيه عن المزيد والمزيد من المعرفة التي لا تحقق قيمة الذات ولا ترضي وجدان الوعي العظيم ، ذلك المستقبل الحقيقي الذي يصل الإنسان بين الأرض والسماوات ، ذلك هو الشرف العظيم ، والعلم الحقيقي ، حين يتحدُ الجمال والحكمة ….​ 

تعقيب وخلاصة للموضوع :

1. نقد المنهج العلمي لا يعني الاستغناء عن إنجازاته وميادينه ، وإنما توسيعها بتوسيع دوائر البحوث العلمية وتطبيقاتها ، لتشمل ما هو أكثر من مجرد النظريات الاحتمالية الجزئية عن الواقع المحلي.

2. انحصار العلوم الطبيعية في هذا العصر ، وبمنهجها الوضعي ، في ميدان التجريب الموضوعي بالنسبة للمراقبين المحليين ، يعني أنها لا تستطيع البحث فيما وراء هذا الواقع ( الذي تنطبق عليه الشروط : الانعكاس على الحواس - ثبوت الظاهرة في الرصد بالنسبة للمراقبين المنتمين لنفس الواقع - وأن يكون هذا الواقع هو المادة في المكان ولا شيء غير ذلك ) يشمل هذا العجز : البحث في جوهر الظاهرة المرصودة وفي علة حدوثها ( والعلة هي السبب الحقيقي للظاهرة بينما الآلية تصف الاقترانات الزمنية للأحداث الأخرى معها ) وتفسير الأحداث الزمنية بشكل عام ، وتفسير الحالات الاستبطانية بشكل خاص ، الإجابة على أسئلة تتعلق بالوعي ، ونشأة الحياة ، وعلاج الأمراض اللاعضوية ، وإطلاق الحكم على العلوم التي تتجاوز هذا الواقع ، وأصل الكون ، وتعدد العالمين ، وحول الله ، وحول الذات ، وحول الدين ، وحول التاريخ ، ذلك كله ليس من مجالات البحث العلمي الوضعي ، ولا يستطيع العلم الوضعي أصلاً توفير الأدوات المناسبة لهكذا بحوث.

3. ينبغي الالتفات جيداً إلى الفرق بين "الإجرائيات" وبين "التعليل" ، اختراع الآلات يقوم على نموذج الفيزياء الإجرائية ، الجراحة علم إجرائي ، الإحصاء علم إجرائي ، والعلوم الإجرائية يمكن التحقق من صدقها بالتجريب الموضوعي المادي حينما ينتمي الواقع الذي تحدث فيه الإجراءات إلى العالم المحلي ، ما ليس ينتمي لهذه العلوم :

_ميكانيكا الكم بدأً من هايزنبروغ ( افتراضات ميتافيزيقية عن الجوهر الفيزيائي ، لا هي تنتمي لعالم الآثار الفيزيائية للعلل فيقوم عليها البرهان التجريبي المحلي ، ولا هي تنتمي لعالم العلل التي تخلق الواقع فيقوم عليها البرهان التجريبي الهندسي أو البراهين الميتافيزيقية الأخرى ).

_نظريات الفيزياء النظرية التي تحاول صرف النظر عن العلل بالقول أن الواقع الفيزيائي عدمي الجوهر واحتمالي التوصيف ، فحتى مع وجود الأوتار الفائقة وكافة عناصر نظرية كل شيء ، فإنها لا تتعرض لا إلى العلل الحقيقية للأحداث ، ولا إلى الكنوه الحقيقية للموجودات الظاهرة في الرصد ، وإنما تصف سلوكاً محلياً لكائنات محلية تشكل أجزاء أصغر من الكائنات المركبة منها ، وكذلك  إذن الدعوة إلى علمٍ جديد يكسر حواجز الزمن الذي تكون فيه ، ليس هو الدعوة إلى التخلي عن العلوم القديمة ، وإنما وضع كل شيء في مكانه الصحيح ، وفي ميزانه القويم.

_علوم الجينيوم ومشروع الجينيوم البشري الذي يرجع السلوك الواعي إلى إجراءات جينية ، فالجينيوم ، كتفاعلات محلية مجهولة الأسباب ، ومنفصلة عن الواقع المُطلق عن القيود المحلية والذي إليه يرجع الوعي ( وعيك حاضرٌ ذاتياً إليك ) فإن الجينات لا تعطي تفسيراً للوعي ولا للسلوك ، بل نوعاً من المُحاكاة الحدثية لقوى الوعي ضمن هذا الواقع المحلي (آثار قوى الوعي الممارسة على هذا العالم والمرصودة كجينات وأجسام محلية )... بل لا يمكن تفسير الوعي بناءً على هذا المعنى ولا بناءً على نظريات التضارب الفراغي الكمي في خلايا الدماغ ( لأن الأحداث والإجراءات المحلية المقترنة بحدث معين من نفس مستواه ، لا توفر تحقيقاً علمياً في علته ولا في كُنهه وإنما تصف سلوكه الخارجي البعيد عن الذات الواعية ).

_نظرية التطور التي ترجع التاريخ الحيوي للكائنات إلى افتراضات لا أساس متين عليها ، وسائر نظريات ما بعد الإنسانية وقوالبها. الإجراء المحلي يصف سلوك كائن محلي ، ولا يصف سبب وعلة هذا السلوك .

معادلات الكهرباء التي تستخدم في اختراع الأجهزة تصف سلوك الكهرباء ، لا تصف ما هي الكهرباء ، ولا ما هي علة الكهرباء ، والحديث عن الكهرباء كجسيمات أو موجات لا بأس به ، وكذلك هو الحديث عن الأوتار الفائقة والتناظرات المتعددة الأبعاد ، ولكن ... إنكار العلل هو المشكلة الحقيقية للعلوم ، وإنكار الذاتية والاستبطان ، والتنكر لوجود الحقيقة خارج الظاهر وفي باطن الموضوع ، هذه هي ما ينبغي إزالتها ، أما العلوم الإجرائية ، حتى ولو اقتصرت إجرائيتها على الواقع المحلي فستبقى مفيدة للمعيشة المؤقتة للإنسان، ولكن لا ينبغي أن تكون إنجازاتها ( التي هي مجرد خدمات على الطريق وليست غايات للباحث أو للمتستخدم ) حاجبة لنور الحق وشعاع الحياة ، لا ينبغي أن تغتر بها وتصرف انتباهك اليقظ عن وجود واقع أعلى وأعلى ، وعن محاولة الوصول إليه ، والتخلص من قيود عالمك الزمنية ، والبحث دائماً عن وسائل أجدى حتى وإن خالفت التوجهات السائدة للآباء المؤسسين لنموذجك الحضاري.

4. يخرج مجال البحث في منهج العلم بصورة كلية عن فلسفة العلوم المعتمدة اليوم ( تقييم المنهجية نفسها وفي إثبات المسلمات العلمية الأساسية ، ليس من قدرات هذه الفلسفة المتواضع عليها ).

5. ذلك يضع الإنسان أمام خيارين : إما أن تترك الإنسانية البحث في الأسئلة الكبرى وحقيقة الواقع لعلوم أخرى غير هذه العلوم الطبيعية ذات المنهج الوضعي والشروط المحلية، وحينها سيكون من المرضي في المقابل أن تحافظ هذه العلوم على بقاءها ، فنحن لا نهتم بتغيير العلوم الوضعية ومنهجها ، من كان يريد أن يتبعها فليفعل ذلك، ولكن لا يحق لأي كان أن يطلق عبارات تعسفية عمياء مثل "العلوم الزائفة" "الدجل والشعوذة" أو خرافات المتدينين والخلقيين ونحو ذلك ويقول أنه يحق له باسم العلم ( الذي لا يعلم عن أسسه شيئاً ).. وإما أن توسع دائرة البحث العلمي لهذه العلوم ، من خلال إعادة تقييم منهجيتها بطريقة جديدة، وهذا التقييم بالطبع لا تشترك فيه العلوم الطبيعية نفسها، لأنها تبحث في واقع محدد هو الواقع المحلي الانعكاسي الموضوعي ( سبق شرحه في مقال التحقيق الفينومينولوجي ). لا يمكن أن تبقى العلوم الطبيعية تدعي محاولة البحث عن إجابات للأسئلة الكبرى وبنفس الوقت تستخدم ذات المنهج المحدود الذي يتعامل مع الوقائع المادية والأحداث الزمنية ، ولا يتعامل مع عللها ولا مع كُنه الأشياء وحقيقتها ، ثم يتم تصدير ذلك للعالم على أنه قمة الحضارة ، وعلى أنه الدين الجديد وجنة الخلد على الأرض ، ويتم تكميم الأفواه ويريدون أن نسكت عن ذلك .

ليس مهماً ما سيحدث للتكنولوجيا ولا ما سيحدث للمجالات العلمية الحالية ، ولكن حق التعبير المُقدس ، والحرية العلمية المجيدة ، وحق الإنسان في تقرير المصير واتخاذ القرار رغماً عن السلطات الحاكمة ، ورغماً عن المتلاعبين بالكلمات الذين صنعوا لغات وضعية وقاموا بأسر آفاق البشرية بسياجها ، هذا الحق وهذه الحريات ، تسمو فوق كل اعتبار ، وكل أكاديمية ، وكل إنسان على وجه الأرض ، وإذا انتهت فخيرٌ للمرء أن يزول ذكره من الأرض ، أو أن يزول كل واقع ممكن يقمعها عن البشرية ، مهما كلف الأمر من التضحيات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة