شجرة الموقع

الأحد، مارس 27، 2022

خرافات أكاديمية | ما هو المعيار الدقيق في التمييز بينَ العلم والخُرافة ؟

 سأحاول أن لا أنظّر فلسفياً كثيراً وسأضرب لك مثالاً عملياً ، قم أنت باشتقاق التعريف منه :

إن كلاً من الخرافة والعلم ( بالمعنى الذي تقصده ) هما محاولتان لتأويل موضوع معين له معطيات مبهمة ، ومن خلال تظافر التأويلات ، ينشأ "نموذج معرفي عن العالم" ، ليس هناك حقيقة مطلقة في المعرفة البشرية حتى تكون الخرافة ضديدها. ولكن ببساطة ، انظر معي للمثال التالي :

"وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم" ويستتبعها حديث يقول "دابةٌ أُهلُب"

التفكير الخرافي يقوم بتأويل الآية وفقاً للرؤيا التي توفرها الصور التالية :

أو مثلاً يقوم بإسقاط نتائج توصل لها العلم التجريبي الحالي على النص المقدس السابق ، فتُصبح الدابة هي كورونا مثلاً ( أو أي وباء مستقبلي آخر ).

التفكر العلمي يتعامل مع نفس النص ضمن نموذج مَعنوي وتجريدي ، يرُدُّه إلى أصله ضمن نطاق الوجود ، فالدابة هي التي تتصفُ بغَلَبَة الجسَد وغرائزه وقيوده على النفس وتشتيته لانتباه الروح ، ومع الوقت ، تنعكس الدابة على المُستوى الجمعي "كما في آلات الحَرب" وعلى المستوى الكوكبي أيضاً "كما هُوَ موعود".

النص بحد ذاته "مُبهم" وحمّال لملايين الملايين من التفسيرات ( تقريب للانهاية ) ، ولـَـكن ... هنالِكَ تفسيراتٌ لها مُنطلقات دقيقة ثاقبة ، وهُنالِك تفسيرات عشوائية ليس لها دالة ومصفوفة تستندُ عليها ، أي نص مقدس أو حتى مُغرق في الطابع الأدبي أو الفني ، تنطبق عليه هذه القاعدة ، ببساطة لأنه يتكلم عن أشياء غير محددة المعالم ، ليس هناك لُغزٌ في العالم يأتيك مع Guide book ، فما بالك بألغاز ميثولوجية ودينية مِن أعمَق الأزمان  ؟ طريقة تأويلك هي ما سيحدد قيمة الطرح الذي تُقدمه.

إليك أمثلة أخرى :

  • الخرافة تقول : هناك 300000000 إله عند الهندوس[2]وأنهم يعبدون البقر ، الحقيقة كما تصفها CNN[3].
  • الخرافة تقول : لقد بُنيَ هرم خوفو[4] كمقبرة للملك "خوفو" الذي يعد من أقل ملوك مِصر أهمية ، وبوسائل بدائية تشبه وسائل بناء الأكواخ.
  • التفكير الخُرافي هو أن تُجهد نفسك في تأليف كتاب من أكثر من 400 صفحة[5] لكي تُثبت أن الإله هو شاب أمرد موجود في مكان ما في الفضاء ( الذي يعرفونه على أنه السماء ).

يعتمد "التفكير العلمي" على "التجريد" [6] ، إنه أهم من "التجربة" بحد ذاتها ، إنه المَلَكة المعرفية التي المسؤولة عن إدراكك للمفاهيم والعلاقات الرياضية[7] والمنطقية ، ولاحقاً الفيزيائية[8]، وأخيراً الحاسوبية[9].

"التفكير التحشيشي" هو ما يجعل معادلة من نوع E=mc² مجرد لغو لغوي لا يصلح للانطباق إلا على واقعة محددة بعينها ، بينما يَمتنع تعميمه على مجموعة "فئة" ضمن إطار فيزيائي ، أي أنه حتى ضمن مجالها الفيزيائي الافتراضي ، لا معنى لعموميتها ، لأنه لا معنى لها كـ"كليات" و"علاقات" أصلاً. وحتى ولو افترضتم تحقق المستحيل وتجريب هذه المعادلة على كل الحَدثيات الزمكانية ودون الزمكانية ضمن العالم الفيزيائي منذ نشأته وإلى توفيه أو إلى الأبد ، وتوافق جميع هذه النتائج اللانهائية ، فوفقاً لـ"فلسفة العلم التحليلية" ليس هناك معنى لهذه المعادلة ، بمعنى أن الخاصية المميِزة لـ"فئة" تضم مجموعة من العناصر ، غير قابلة للتعميم على هذه العناصر ( حتى ) ولو تحققت في كل عنصر. لأن التعميم ضرب من العِلية المعقولة ، وهم ببساطَة رافضون لأي وجود للمَعقولات رفضاً ابتدائياً دون برهان وتحقيق.

"عندما يقول لك أحدهم : إن كان حبيبك من عسل ، سده واستريح ، وتتخيل حضرتك "برطماناً ضخماً مملوءً بالعسل" وكيفية سده ، فهذا هو التعريف الدقيق لـ"الخرافة" ، لكن عندما تحاول تعميم نتائجك المبهرة وتحوليها إلى "الدالة الوحيدة ذات المعنى" والتي تُلغي كل معنى من إطار دراسة العلم والفلسفة ، بل وحتى تأويل الأدب والدين والانثروبولوجيا وفقاً لذلك السياق ، فهذا هو التعريف الدقيق لـ"التحشيش"[10].

إن الخُرافة ترتبط بالتأويل السطحي للرموز ، سواءً أكانت دينية أم تجريبية ، إنها إحالَة معنى الرمز إلى مستواه الذي ظهر به كرمز ، تماماً كما لا يفهم الأطفال عادة مقصود الأقاويل الجنسية ، تماماً كما لا يفهم الفيزيائيون الكبار مبادئ علمهم الفلسفية ، وتكوين الشيء الفيزيائي.

ولكنّ العناد حذا بأصحابه أن "يرفضوا" بشكل انطلاقي وجود المعنى في الكَون ، ويؤسسوا عليه بنيانهم المعرفي ، ثُمَّ يُلصقوه بالعلم التجريبي ، هذا ليس خرافة ، هذا افتراء وتعصب أعمى ومحاربة لانتشار الحقيقة هذا ، تحشيش.

تحياتي …

_________________

تعليقات :

"التفكير الخرافي يقوم بتأويل الآية (…)".

ما منهجك في تأويل الآيات الدينية؟

"أو مثلاً يقوم بإسقاط نتائج توصل لها العلم التجريبي الحالي على النص المقدس السابق ، فتُصبح الدابة هي كورونا مثلاً ( أو أي وباء مستقبلي آخر )."

في أَحدِ نصوصي الأدبية :

أسقطت فكرة إعدام الناس المبدعة (كتّاب، فلاسفة، علماء …) على حبل المشنقة وفكرة جاذبية الرفاه الذي يؤدي بالمجتمعات للانسحاق الحضاري على الجاذبية؛ طبعا هذا ليس اجتهاد فلسفي تاريخي مِن عندي بل اجتهاد غيري.

" لكن عندما تحاول تعميم نتائجك المبهرة وتحوليها إلى "الدالة الوحيدة ذات المعنى" والتي تُلغي كل معنى من إطار دراسة العلم والفلسفة ، بل وحتى تأويل الأدب والدين والفن والانثروبولوجيا وفقاً لذلك السياق ، فهذا هو التعريف الدقيق ل"التحشيش".

حسب هذا التعريف هل هذا ضرب مِن التحشيش:

التحشيش في جملة: "أضف أن الفلسفة ومواضيع الدراسة المعروفة باسم الإنسانيات ما زالت تدرَّس وكأن داروين لم يولد بعد". -ريتشارد دوكينز (الجينة الأنانيّة).

إذا كان كذلك؛ في رأيك ما الذي يدفع الناس لهذا التحشيش؟ وما المشكلة في هذا التحشيش؟

معذرة على كثرة الأسئلة وعن أي سوء فهم للإجابة. إجاباتك تثيريني فكريا. ممنون لك ^_^

أهلاً وسهلاً بحضرتكم ، لا على العكس ، مرحبٌ بالأسئلة دائماً ( على قدر استطاعتي ).

أرغب أولاً أن أشير إلى أن لفظ "تحشيش" و"خرافة" ليس من باب الإساءة ، بل من باب النقد الساخر ، حيث أنه وبصراحة ففكر الوضعية المنطقية بنموذجه القديم "ابن تيمية" والحديث "مدرسة فيينا ورسالات شباب فتجنشتاين" هو فكرٌ جبار ومؤثر ويستحق كامل الاحترام "كمجهود". وحقيقة استغرقت مني عملية تفكيكه زمناً وجهداً طويلاً ومتعباً وذا نكهة خاصة.

أما بالنسبة لدوكنز ، مع احترامي له ، إلا أن كتبه ( ذات طابع تجاري ) أكثر منها طابعاً نقدياً جاداً ، من يريد فهم عقلية الملحد أو العلموي لا يلجأن إلى تلك الكتب ، لأنها شعبية كثيراً ، بل عليه أن يطلع على : المنهج العلمي والوضعية وكتاب "الإلحاد : تعليل فلسفي" وكتب العبثية والعدمية. لا جدوى كثيرة من نقد فكر دوكنز لأنه موجه نحو غايات غير حوارية أصلاً.

ما يقصده دوكنز هنا ، هو احتجاج منطقي يبدأ من مسلمة التسليم بالعلم المؤسساتي وبنظريات أخرى ، وهو يستخدم "الإيحاء" للقارئ بأنك طالما تسلم معي بهذا فلماذا تنكر ذاك ؟ وهي حجة جدلية تعتمد على المصادرات.

وفق سياق نصّك الجميل : إن "الجاذبية" ترمز للنموذج الكوني الذي يسمح بـ"القتل" أو بالأحرى "الانتخاب الطبيعي" ، أما حبل المشنقة فهو استخدام بشري لهذا النموذج "انتخاب صناعي" وبينهما يتم التفاعل المؤدي إلى القتل ، أي فعل بشري ، فهو من ناحية عقلانية فعلٌ مشترك بين الذات والموضوع.

فلسفة "الفداء" لها وقعٌ خاص على الناس ، لأنها تحرك فيهم رغبتهم الكامنة في التمرد على السلطة الزمنية ، وهي رغبة تسمو فوق كل عقل ممكن ، ولا سبيل إلى اجتثاثها نهائياً ، لذلك تعيش الأفكار التي يتم تقديم الحياة الدنيوية "الرغبات المتصارعة\الأنا المزيفة" في سبيلها ، وتأخذ نكهة المطلق وتعيش في رحابه.

رؤيتك لجاذبية الرفاه ، هي نفس رؤيتي لـ"رغبة الأمان\الثبات\العبودية" التي تتصراع مع رغبة التمرد ، هاتين الرغبتين يتم صياغة أسماء لانهائية لهما ، رغبة الأمان متعلقة مباشرة بالانتخاب الطبيعي.

آمل أن أكون قد أعطيتك ما رغبت به … وأهلاً بك دائماً …

______________________________________________________

 المَصادِر :

[1] Pekigese Head

2]سامي الذيب - 300 مليون إله عند الهندوس

[3] هل يعبد الهندوس 330 إلهاً؟ 5 خرافات عن الهندوس وآلهتهم

[4]A Surprising Result

[[5 بيان تلبيس الجهمية - ويكيبيديا

[6] الموسوعة العربية | التجريد

[7]Facets and Levels of Mathematical Abstraction

[8]Scientific Knowledge and Scientific Abstraction

[9] التجريد (علوم الكمبيوتر)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة